فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {يُسبّحُ لله ما في السموات وما فِي الأرض لهُ الملك} أي: له الملك الدائم الذي لا يزول، يعني: يحمده المؤمنون في الدنيا وفي الجنة.
كما قال: {ولهُ الحمد} في الأولى والآخرة، ويقال: {لهُ الحمد} يعني: هو المحمود في شأنه، وهو أهل أن يحمد، لأن الخلق كلهم في نعمته.
فالواجب عليهم أن يحمدوه.
ثم قال: {وهُو على كُلّ شيء قدِيرٌ} يعني: قادر على ما يشاء.
{هُو الذي خلقكُمْ} يعني: يخلقكم من نفس واحدة، {فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} يعني: منكم من يصير كافرا، ومنكم من يصير أهلا للإيمان ويؤمن بتوفيق الله تعالى.
ويقال: منكم من خلقه كافرا، ومنكم من خلقه مؤمنا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إنّ بنِي آدم خُلِقُوا على طبقاتٍ شتّى».
وإلى هذا ذهب أهل الجبر.
ويقال: {فمِنكُمْ كافِرٌ} يعني: كافر بأن الله تعالى خلقه، وهو كقوله: {قُتِل الإنسان مآ أكْفره مِنْ أي شيء خلقهُ} [عبس: 17/18] وكقوله: {قال لهُ صاحبه وهُو يحاوره أكفرْت بالذى خلقك مِن تُرابٍ ثُمّ مِن نُّطْفةٍ ثُمّ سوّاك رجُلا} [الكهف: 37]، ويقال: {فمِنكُمْ كافِرٌ} يعني: كافرا في السر وهم المنافقون {ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} وهم المخلصون.
ويقال: هذا الخطاب لجميع الخلق، ومعناه: هو الذي خلقكم، فمنكم كافر بالله وهم المشركون، ومنكم مؤمن وهم المؤمنون، يعني: استويتم في خلق الله إياكم، واختلفتم في أحوالكم، فمنكم من آمن بالله، ومنكم من كفر.
ثم قال: {والله بِما تعْملُون بصِيرٌ} يعني: عليما بما تعملون من الخير والشر.
ثم قال عز وجل: {خُلِق السموات والأرض بالحق} يعني: بالحق والحجة والثواب والعقاب.
{وصوّركُمْ} يعني: خلقكم، {فأحْسن صُوركُمْ} يعني: خلقكم على أجمل صورة.
وهذا كقوله: {لقدْ خلقْنا الإنسان في أحْسنِ تقْوِيمٍ} [التين: 4] وكقوله: {ولقدْ كرّمْنا بنِى ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم مِّن الطيبات وفضلناهم على كثِيرٍ ممن خلقْنا تفْضِيلا} [الإسراء: 70] ثم قال: {وإِليْهِ المصير} يعني: إليه المرجع في الآخرة، فهذا التهديد يعني: كونوا على الحذر.
لأن مرجعكم إليه.
ثم قال: {يعْلمُ ما في السموات والأرض} يعني: من كل موجود.
{ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون} يعني: ما تخفون وما تضمرون في قلوبكم، وما تظهرون وتعلنون بألسنتكم.
{والله علِيمٌ بِذاتِ الصدور} يعني: عليما بسرائركم.
ثم قال الله عز وجل: {ألمْ يأْتِكُمْ نبؤُاْ الذين كفرُواْ مِن قبْلُ}.
اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التوبيخ والتقريع، يعني: قد أتاكم خبر الذين كفروا من قبلكم.
{فذاقُواْ وبال أمْرِهِمْ} يعني: أصابتهم عقوبة ذنبهم في الدنيا.
ثم أخبر: أن ما أصابهم في الدنيا، لم يكن كفارة لذنوبهم، فقال: {ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} في الآخرة ثم بين السبب الذي أصابهم به العذاب، فقال: {ذلك} العذاب.
{بِأنّهُ كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} يعني: بالأمر والنهي، ويقال: {بالبينات} يعني: بالدلائل والحجج.
{فقالواْ أبشرٌ يهْدُوننا} يعني: آدميا مثلنا يرشدنا ويأتينا بدين غير دين آبائنا؟ {فكفرُواْ} يعني: جحدوا بالرسل والكتاب، {وتولّواْ} يعني: أعرضوا عن الإيمان.
{واستغنى الله} تعالى عن إيمانهم.
{والله غنِىٌّ حمِيدٌ} عن إيمان العباد {حمِيدٌ} في فعاله، يقبل اليسير ويعطي الجزيل.
ثم قال عز وجل: {زعم الذين كفرُواْ أن لّن يُبْعثُواْ} يعني: مشركي العرب، زعموا أن لن يبعثوا بعد الموت.
{قُلْ} يا محمد {بلى وربّى لتُبْعثُنّ}.
فهذا قسم أقسم أنهم يبعثون بعد الموت.
{ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عمِلْتُمْ} يعني: تخبرون بما عملتم في دار الدنيا، ويجزون على ذلك.
ثم قال: {وذلِك على الله يسِيرٌ} يعني: البعث والجزاء على الله هين.
قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس} يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
{والنور الذي أنزلناه} يعني: صدقوا بالقرآن الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، فسمى القرآن نورا، لأنه يهتدى به في ظلمة الجهالة والضلالة، ويعرف به الحلال والحرام.
ثم قال: {والله بِما تعْملُون خبِيرٌ} يعني: عالم بأعمالكم فيجازيكم بها.
ثم قال: {يوْم يجْمعُكُمْ} يعني: تبعثون في يوم يجمعكم {لِيوْمِ الجمع} يعني: يوم تجمع فيه أهل السماء وأهل الأرض، ويجمع فيه الأولون والآخرون.
قرأ يعقوب الحضرمي {يوْمٍ} بالنون، وقراءة العامة بالياء ومعناهما واحد.
ثم قال: {الجمع ذلِك يوْمُ التغابن} يعني: يغبن فيه الكافر نفسه.
وأصله ومنازله في الجنة، يعني: يكون له النار مكان الجنة، وذلك هو الغبن والخسران.
ثم قال: {ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالحا} يعني: يوحد الله تعالى ويؤدِّي الفرائض.
{يُكفّرْ عنْهُ سيئاته} يعني: ذنوبه، {ويُدْخِلْهُ جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار خالدين فِيها أبدا ذلِك الفوز العظيم} يعني: النجاة الوافرة.
قرأ نافع، وابن عامر {نّكْفُر} و{ندخله} كلاهما بالنون، والباقون كلاهما بالياء، ومعناهما واحد.
ثم وصف حال الكافرين فقال عز وجل: {الميمنة والذين كفرُواْ بآياتنا} يعني: بالكتاب والرسول.
{أُوْلئِك أصحاب النار خالدين فِيها وبِئْس المصير} يعني: بئس المرجع الذي صاروا إليه المغبونين.
ثم قال عز وجل: {ما أصاب مِن مُّصِيبةٍ} يعني: ما أصاب بني آدم من شدة ومرض وموت الأهلين، {إِلاّ بِإِذْنِ الله} يعني: إلا بإرادة الله تعالى وبعلمه.
{ومن يُؤْمِن بالله} يعني: يصدق بالله على المصيبة، ويعلم أنها من الله تعالى، {يهْدِ قلْبهُ} يعني: إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر.
وروي، عن علقة بن قيس: أن رجلا قرأ عنده هذه الآية، فقال: أتدرون ما تفسيرها؟ وهو أن الرجل المسلم، يصاب بالمصيبة في نفسه وماله، يعلم أنها من عند الله تعالى، فيسلم ويرضى.
ويقال: {من يُؤْمِنُ بالله يهْدِ قلْبهُ} للاسترجاع يعني: يوفقه الله تعالى لذلك.
{والله بِكُلّ شيْء علِيمٌ} أي: عالم بثواب من صبر على المصيبة.
ثم قال عز وجل: {وأطِيعُواْ الله} يعني: أطيعوا الله في الفرائض، {وأطِيعُواْ الرسول} في السنن.
ويقال: أطيعوا الله في الرضا بما يقضي عليكم من المصيبة، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الصبر وترك الجزع.
{فإِن تولّيْتُمْ} يعني: أبيتم وأعرضتم عن طاعة الله وطاعة رسوله.
{فإِنّما على رسُولِنا البلاغ المبين} أي: ليس عليه أكثر من التبليغ ثم وحّد نفسه، فقال عز وجل: {الله لا إله إِلاّ هُو} يعني: لا ضار، ولا نافع، ولا كاشف إلاّ هو.
{وعلى الله فلْيتوكّلِ المؤمنون} يعني: على المؤمنين أن يتوكلوا على الله، ويفوضوا أمرهم إليه.
قوله تعالى: {المؤمنون يا أيُّها الذين ءامنُواْ إِنّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عدُوّا لّكُمْ}، حين يمنعونكم الهجرة، {فاحذروهم} أن تطيعوهم في ترك الهجرة.
روى سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن قوما أسلموا بمكة، فأرادوا أن يخرجوا إلى المدينة، فمنعهم أزواجهم وأولادهم.
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فأرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فنزل قوله تعالى: {المؤمنون يا أيُّها الذين ءامنُواْ إِنّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم}.
{وإن تعْفُواْ} يعني: تتركوا عقابهم، {وتصْفحُواْ} يعني: وتتجاوزوا، {وتغْفِرُواْ فإِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ} لذنوب المؤمنين {رّحِيمٌ} بهم.
ثم قال: {إِنّما أموالكم وأولادكم فِتْنةٌ} يعني: الذين بمكة بلية لا يقدر الرجل على الهجرة.
روي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا، فأقبل الحسن والحسين يمشيان ويعثران.
فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل إليهما وأخذهما واحدا من هذا الجانب، وواحدا من هذا الجانب.
ثم صعد المنبر، فقال: «صدق الله {إِنّما أموالكم وأولادكم فِتْنةٌ} لمّا رأيْتُ هاذين الغُلاميْنِ، لمْ أصْبِرْ أنْ قطعْتُ كلامِي، ونزلْتُ إِليْهِما».
ثم أتم الخطبة.
ثم قال: {والله عِنْدهُ أجْرٌ عظِيمٌ} أي: ثواب عظيم، لمن آمن ولمن لم يعص الله تعالى لأجل الأموال والأولاد وأحسن إليهم.
ثم قال عز وجل: {فاتقوا الله ما استطعتم} يعني: على قدر ما أطقتم.
{واسمعوا} يعني: اسمعوا ما تؤمرون به من المواعظ.
{وأطِيعُواْ} يعني: وأطيعوا الله والرسول.
{وأنْفِقُواْ خيْرا لاِنفُسِكُمْ} يعني: تصدقوا خيرا، يعني: وأنفقوا من أموالكم في حق الله تعالى {لأنفُسِكُمْ} يعني: ثوابه لأنفسكم، ويكون زادا لكم إلى الجنة.
ويقال معناه: تصدقوا خيرا لأنفسكم من إمساك الصدقة.
{ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ} يعني: يدفع البخل عن نفسه، {فأُوْلئِك هُمُ المفلحون} يعني: الناجين السعداء.
وقوله تعالى: {إِن تُقْرِضُواْ الله قرْضا حسنا} يعني: صادقا من قلوبكم.
{يضاعفه لكُمْ} يعني: القرض يضاعف حسناتكم.
ويقال: {يضاعفه لكُمْ} يعني: الله تعالى يضاعف القرض لكم، فيعطي للواحد عشرة إلى سبعمائة، إلى ما لا يحصى.
{ويغْفِرْ لكُمْ} يعني: يغفر لكم ذنوبكم.
{والله شكُورٌ} يعني: يقبل اليسير ويعطي الجزيل.
{حلِيمٌ} لا يعجل بالعقوبة لمن يبخل.
ثم قال: {عالم الغيب والشهادة}، وقد ذكرناه.
{العزيز الحكيم} يعني: العزيز في ملكه، الحكيم في أمره، سبحانه وتعالى، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال الثعلبي:

{يُسبِّحُ لله ما فِي السماوات وما فِي الأرض لهُ الملك ولهُ الحمد وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ هُو الذي خلقكُمْ فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ والله بِما تعْملُون بصِيرٌ}
اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: إنّ الله سبحانه خلق الخلق مؤمنين وكافرين.
قال ابن عبّاس: بدأ الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا.
واحتجّوا بحديث الصادق المصدِّق وقوله: «السعيد من سعد في بطن أمّه والشقي من شقي في بطن أُمّه».
وكما أخبرنا عبد الله بن كامل الأصبهاني قال: أخبرني أبُو بكر أحمد بن محمد بن يحيى العبدي بنو شيخ قال: حدّثنا أحمد بن نجدة بن العريان قال: حدّثنا المحاملي قال: حدّثنا ابن المبارك عن أبي لهيعة قال: حدّثني بكر بن سوادة عن أبي تميم الحسائي عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الرّب تبارك وتعالى، فقال: يارب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله سبحانه ماهو قاض. أشقيٌ أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق» وقرأ أبُو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات.
وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن حبيب قال: حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل السيوطي قال: حدّثنا داود بن المفضل قال: حدّثنا نصر بن طريف قال: أخبرنا قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجية بن كعب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله سبحانه فرعون في بطن أُمّه كافرا، وخلق يحيى بن زكرّيا في بطن أُمّه مؤمنا».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا».
وقال الله سبحانه: {ولا يلدوا إِلاّ فاجِرا كفّارا} [نوح: 27].
إنّ الله سبحانه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا وتمام الكلام عند قوله: {هُو الذي خلقكُمْ} ثم وصفهم {فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} وهو مثل قوله: {والله خلق كُلّ دآبّةٍ مِّن مّاءٍ فمِنْهُمْ مّن يمْشِي على بطْنِهِ} [النور: 45] الآية، قالوا: فالله خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسن ابن الفضل.
قالوا: أو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفه بفعلهم في قوله: {فمِنكُمْ كافِرٌ ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} الكفر فعل الكافر، والإيمان فعل المؤمن.
واحتجّوا بقوله سبحانه: {فِطْرت الله التي فطر الناس عليْها} [الروم: 30] وبقوله: «كل مولود يولد على الفطرة»، وقوله حكاية عن ربّه: «إنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء» ونحوها من الأخبار، ثم اختلفوا في تأويلها، فروى أبُو الجوزاء عن ابن عبّاس قال: (فمنكم مؤمن يكفر، ومنكم كافر يؤمن).
وقال أبُو سعيد الخدري: (فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة)، وقال الضحاك: فمنكم كافر في السّر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السّر، كافر في العلانية كعمّار وذويه. فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني في شأن الأنوار.
قال الزجّاج: وأحسن ما قيل فيها {هُو الذي خلقكُمْ فمِنكُمْ كافِرٌ} بأنّ الله خلقه، وهو مذهب أهل الدهر والطبائع. {ومِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} بأنّ الله خلقه.
وجملة القول في حكم هذه الآية ومعناها والذّي عليه جمهور الأُمّة والأئمة والمحقّقون من أهل السُنّة هي أنّ الله خلق الكافر وكفره فعلا له وكسبا، وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسبا، فالكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله سبحانه إيّاه؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى قدّر عليه ذلك وعلِمهُ منه، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان بعد خلق الله تعالى إيّاه؛ لأنّ الله سبحانه أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلِمهُ منه، ولا يجوز أن يوجد من كلّ واحد منهم غير الذي قدّره الله عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، وخلاف المعلوم جهل، وهما لا يليقان بالله تعالى، ولا يجوزان عليه، ومن سلك هذا السبيل سلِم من الجبر والقدر فأصاب الحقّ كقول القائل:
يا ناظرا في الدّين ما الأمر ** لا قدرٌ صحّ ولا جبرُ

وقد أخبرنا أبُو علي زاهر بن أحمد العمدة السرخسي قال: حدّثنا عبد الله بن مبشر الواسطي قال: حدّثنا أحمد بن منصور الزّيادي قال: سمعت سيلان يقول: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ قال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب علينا أن نردّ ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
{خلق السماوات والأرض بالحق وصوّركُمْ فأحْسن صُوركُمْ وإِليْهِ المصير} {يعْلمُ ما فِي السماوات والأرض ويعْلمُ ما تُسِرُّون وما تُعْلِنُون والله علِيمٌ بِذاتِ الصدور} {ألمْ يأْتِكُمْ نبأُ الذين كفرُواْ مِن قبْلُ فذاقُواْ وبال أمْرِهِمْ ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} يعني الأُمم الخالية {فذاقُواْ وبال أمْرِهِمْ ولهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} {ذلِك} العذاب. {بِأنّهُ كانت تّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أبشرٌ يهْدُوننا} لأنّ البشر وإن كان لفظه واحد فإنّه في معنى الجمع وهو اسم الجنس وواحده إنسان ولا واحد له من لفظه.
{فكفرُواْ وتولّواْ واستغنى الله} عن إيمانهم {والله غنِيٌّ} عن خلقه، {حمِيدٌ} في أفعاله.
{زعم الذين كفروا أن لّن يُبْعثُواْ قُلْ} يا محمّد {بلى وربِّي لتُبْعثُنّ ثُمّ لتُنبّؤُنّ بِما عمِلْتُمْ وذلِك على الله يسِيرٌ}.
{فآمِنُواْ بالله ورسُولِهِ والنور الذي أنزلْنا} وهو القرآن.
{والله بِما تعْملُون خبِيرٌ}.
{يوْم يجْمعُكُمْ} قراءة العامّة بالياء لقوله سبحانه: {فآمِنُواْ بالله ورسُولِهِ والنور الذي أنزلْنا والله بِما تعْملُون خبِيرٌ} وقرأ رويس عن يعقوب {يوم نجمعكم} بالنون اعتبارا بقوله: {أنزلنا} .
{لِيوْمِ الجمع ذلِك يوْمُ التغابن} وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدّثنا كثير بن يحيى قال: حدّثنا أبُو آمنة بن معلّى الثقفي قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلاّ أُري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النّار إلاّ أُري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة».
قال المفسّرون: من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام.
{ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالِحا يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الأنهار خالِدِين فِيهآ أبدا} قرأ أهل المدينة والشام ها هنا وفي السورة الّتي تليها: {نكفّر} و{ندخله} بالنون، والباقون بالياء.
{ذلِك الفوز العظيم} {والذين كفرُواْ وكذّبُواْ بِآياتِنآ أولئك أصْحابُ النار خالِدِين فِيها وبِئْس المصير} {مآ أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله} بإرادته وقضائه.
{ومن يُؤْمِن بالله} قصدوا به لا يصيب مصيبة إلاّ بإذن الله {يهْدِ قلْبهُ} يوفقه لليقين حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه قاله ابن عبّاس.
وأنبأني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا الحسن بن يعقوب قال: حدّثنا أبُو إسحاق إبراهيم بن عبد الله قال: حدّثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنّا نعرض المصاحف على علقمة بن قيس فمرّ بهذه الآية {مآ أصاب مِن مُّصِيبةٍ إِلاّ بِإِذْنِ الله ومن يُؤْمِن بالله يهْدِ قلْبهُ} فسألناه عنها فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند الله فيرضى ويسلّم.
وقال أبُو بكر الورّاق: ومن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء، فيعلم أنّها من فضل الله يهد قلبه للشكر، ومن يؤمن بالله عند الشدّة والبلاء فيعلم أنّها من عند الله يهدِ قلبه للرضا والصبر.
وقال أبُو عثمان الجيري: ومن صحّ إيمانه يهد قلبه لاتباع السنّة.
وقد اختلف القراء في هذه الآية، فقراءة العامّة {يهد قلبه} بفتح الياء والباء واختاره أبُو عبيده وأبُو حاتم، وقرأ السلمي بضم الياء والباء وفتح الدّال على الفعل المجهول، وقرأ طلحة ابن مصرف: {نهد} قلبه بالنون وفتح الباء على التعظيم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدّثنا أبُو عمر المقرئ قال: حدّثنا أبُو عمارة قال: حدّثنا سهل بن موسى الأسواري قال: أخبرني من سمع عكرمة يقرأ: {ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه} ، من الهدوء أي يسكن ويطمئن.
وقرأ مالك بن دينار: {يهدا قلبه} بألف لينّة بدلا من الهمزة.
{والله بِكُلِّ شيْءٍ علِيمٌ} {وأطِيعُواْ الله وأطِيعُواْ الرسول فإِن تولّيْتُمْ فإِنّما على رسُولِنا البلاغ المبين} التبليغ البيّن.
{الله لا إله إِلاّ هُو وعلى الله فلْيتوكّلِ المؤمنون} {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ فاحذروهم} نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبّطهم عنها أزواجهم وأولادهم.
قال ابن عبّاس: كان الرجل يُسلم، فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا له: ننشدك الله أنْ تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير بالمدينة بلا أهل ومال، وإنّا قد صبرنا على إسلامك فلا نصبر على فراقك، ولا نخرج معك، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم لذلك فلا يهاجر، فإذا هاجر رأى النّاس قد نقموا في الدّين منهم أن يعاقبهم في تباطئهم به عن الهجرة، ومنهم من لا يطيعهم ويقولون لهم في خلافهم في الخروج: لئن جمعنا الله وإيّاكم لا تصيبون منّي خيرا، ولأفعلنّ، وأفعلنّ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال عطاء بن يسار وعطاء الخراساني: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزّو بكوا إليه ورفّقوه وقالوا: إلى من تكلنا وتدعنا فيرقّ ويقيم، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِنْ أزْواجِكُمْ وأوْلادِكُمْ عدُوّا لّكُمْ} لحملهم إيّاكم على المعصية وترك الطاعة فاحذروهم أن تقبلوا منهم.
{وإِن تعْفُواْ وتصْفحُواْ وتغْفِرُواْ} فلا تعاقبوهم على خلافهم إيّاكم {فإِنّ الله غفُورٌ رّحِيمٌ} {إِنّمآ أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ} بلاء واختبار يحملكم على الكسب من الحرام والمنع عن الحقّ، وقال القتيبي: إغرام يقال فتن فلان بفلانة أي أُغرم بها.
قالت الحكماء: أُدخل من التبعيض في ذكر الأزواج والأولاد حيث أُخبر عن عداوتهم، لأنّ كلّهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله: {إِنّمآ أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ} لأنّها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب بها، يدلّ عليه قول عبد الله بن مسعود: (لا يقولنّ أحد: اللهم إنّي أعوذ بك من الفتنة، فإنّه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلاّ وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلاّت الفتن).
وأخبرنا ابن منجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل قال: حدّثنا أبُو خثمه قال: حدّثنا زيد بن حباب قال: حدّثنا حسين بن واقد قاضي مرو قال: حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران، فنزل النّبي (عليه السلام) اليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر فقال: صدق الله {إِنّمآ أمْوالُكُمْ وأوْلادُكُمْ فِتْنةٌ} رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما. ثم أخذ في الخطبة».
{فاتقوا الله ما استطعتم} ناسخة لقوله: {اتقوا الله حقّ تُقاتِهِ} [آل عمران: 102] وقد مرّ ذكره.
{واسمعوا وأطِيعُواْ وأنْفِقُواْ خيْرا لأنفُسِكُمْ} مجازه: يكن الإنفاق خيرا لأنفسكم. {ومن يُوق شُحّ نفْسِهِ} ومنعها عن الحقّ {فأولئك هُمُ المفلحون} قال ابن عمر: (ليس الشّح أن يمنع الرجل ماله، وإنّما الشّح أن يطمع الرجل إلى ما ليس له).
{إِن تُقْرِضُواْ الله قرْضا حسنا يُضاعِفْهُ لكُمْ ويغْفِرْ لكُمْ والله شكُورٌ حلِيمٌ}.
{عالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم}. اهـ.